الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (83): {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ} {تلك} إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة.وقال مجاهد: هي قول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ}.وقيل: حجته عليهم أنهم لما قالوا له: أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟ قال لهم: أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم، فيغضب الكبير فيخبلكم؟. {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} أي بالعلم والفهم والإمامة والملك. وقرأ الكوفيون {درجات} بالتنوين. ومثله في يوسف أوقعوا الفعل على {من} لأنه المرفوع في الحقيقة، التقدير: ونرفع من نشاء إلى درجات. ثم حذفت إلى. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع صاحبها. يقوي هذه القراءة قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ} وقول عليه السلام: «اللهم أرفع درجته». فأضاف الرفع إلى الدرجات. وهو لا إله إلا هو الرفيع المتعالي في شرفه وفضله. فالقراءتان متقاربتان، لأن من رفعت درجاته فقد رفع، ومن رفع فقد رفعت درجاته، فأعلم. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يضع كل شيء موضعه..تفسير الآيات (84- 85): {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)}فيه ثلاث مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} أي جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه. {كُلًّا هَدَيْنا} أي كل واحد منهم مهتد. و{كُلًّا} نصب ب {هَدَيْنا} {وَنُوحاً} نصب ب {هَدَيْنا} الثاني. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي ذرية إبراهيم.وقيل: من ذرية نوح، قاله الفراء وأختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج، واعترض بأنه عد من هذه الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه.وقيل: ابن أخته.وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم، لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا {نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ}. وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد وهي:الثانية: قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة، لأنهم ليسوا بمحرمين.وقال الشافعي: القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره.وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول: لقرابتي وعقبي كقول: لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في آل عمران. والحجة لهما قول سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة.وقال تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى} فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي«إن ابني هذا سيد». ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك، لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة، والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك، قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إلى قول: {مِنَ الصَّالِحِينَ} فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته.الثالثة: قد تقدم في النساء بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال: كان من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة {والياس} بوصل الألف. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم {واليسع} بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما {والليسع}.وكذا قرأ الكسائي، ورد قراءة من قرأ {واليسع} قال: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، والعرب تقول: اليعمل واليحمد، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ {الليسع} وقال: لا يوجد ليسع.وقال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب، والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي: من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام، إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: اسمين لرجلين، لأنهما معرفتان علمان. فأما {ليسع} نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحب إلي، لأن أكثر القراء عليه.وقال المهدوي: من قرأ {اليسع} بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله:وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله: يريد الذي يتقصع. قال القشيري: قرئ بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف، مثل إسماعيل وإبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهم قوم أن اليسع هو إلياس، وليس كذلك، لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر.وقال وهب: اليسع هو صاحب إلياس، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى.وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوح وإلياس من ذريته.وقيل: إلياس هو الخضر.وقيل: لا، بل اليسع هو الخضر {وَلُوطاً} اسم أعجمي انصرف لخفته. وسيأتي اشتقاقه في الأعراف. .تفسير الآية رقم (87): {وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)}قوله تعالى: {وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} {مِنْ} للتبعيض، أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. واجتبيناهم قال مجاهد: خلصناهم، وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم، مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي: وجبيت الماء في الحوض جبا، مقصور. والجابية الحوض. قال:وقد تقدم معنى الاصطفاء والهداية. .تفسير الآية رقم (88): {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)}قوله تعالى: {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في البقرة..تفسير الآية رقم (89): {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)}قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ابتداء وخبر {وَالْحُكْمَ} العلم والفقه. {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها} أي بآياتنا. هؤلاء أي كفار عصرك يا محمد. {فَقَدْ وَكَّلْنا بِها} جواب الشرط، أي وكلنا بالإيمان بها {قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ} يريد الأنصار من أهل المدينة والمهاجرين من أهل مكة.وقال قتادة: يعني النبيين الذين قص الله عز وجل. قال النحاس: وهذا القول أشبه بالمعنى، لأنه قال بعد: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}.وقال أبو رجاء: هم الملائكة.وقيل: هو عام في كل مؤمن من الجن والإنس والملائكة. والباء في {بِكافِرِينَ} زائدة على جهة التأكيد..تفسير الآية رقم (90): {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)}قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} فيه مسألتان: الأولى قوله تعالى: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. فقيل: المعنى أصبر كما صبروا. وفيل: معنى {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} التوحيد والشرائع مختلفة. وقد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب أتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص، كما في صحيح مسلم وغيره: أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: «القصاص القصاص» فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله». قالت: والله لا يقتص منها أبدا. قال: فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره». فأحال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قول: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السن إلا في هذه الآية، وهي خبر عن شرع التوراة ومع ذلك فحكم بها وأحال عليها. وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وأنه يجب العمل بما وجد منها. قال ابن بكير: وهو الذي تقتضيه أصول مالك وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والمعتزلة، لقول تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً}. وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل التقييد: إلا فيما قص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت من كتابكم.وفي صحيح البخاري عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس عن سجدة ص فقال: أو تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إلى قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}؟ وكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء به.الثانية: قرأ حمزة والكسائي {اقتد قل} بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر {اقتد هي قل}. قال النحاس: وهذا لحن، لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء، وكذلك أيضا لا يجوز {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ}. ومن اجتنب اللحن وأتبع السواد قرأ {فبهداهم اقتده} فوقف ولم يصل، لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. وقرأ الجمهور بالهاء في الوصل على نية الوقف وعلى نية الإدراج أتباعا لثباتها في الخط. وقرأ ابن عياش وهشام {اقتده قل} بكسر الهاء، وهو غلط لا يجوز في العربية. قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي جعلا على القرآن. {إِنْ هُوَ} أي القرآن. {إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ} أي هو موعظة للخلق. وأضاف الهداية إليهم فقال: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} لوقوع الهداية بهم. وقال: {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ} لأنه الخالق للهداية..تفسير الآية رقم (91): {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شيء قدير.وقال الحسن: ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا: {ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح، فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته.وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس: وهذا معنى حسن، لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قول تعالى: {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يرسل رسولا. والمعنيان متقاربان. وقد قيل: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة {وما قدروا الله حق قدره} بفتح الدال، وهي لغة. {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش.وقال الحسن وسعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم ينز الله كتابا من السماء. قال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف، جاء يخاصم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين»؟ وكان حبرا سمينا. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شي. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال والله ما أنزل الله على بشر من شي، فنزلت الآية. ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ}- أي في قراطيس- {تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرها من الأحكام.وقال مجاهد: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} خطاب للمشركين، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ} لليهود وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ {يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون} بالياء والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا}أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال: {قَراطِيسَ تُبْدُونَها} أي تبدون القراطيس. وهذا ذم لهم، ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. {قُلِ اللَّهُ} أي قل يا محمد {الله} الذي أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي لاعبين، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد.وقيل: هو من المنسوخ بالقتال، ثم قيل: {تَجْعَلُونَهُ} في موضع الصفة لقوله: {نُوراً وَهُدىً} فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفا، والتقدير: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله: {تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يحتمل أن يكون صفة لقراطيس، لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم.
|